المجلس الخامس والعشرون: باب صيام يوم عاشوراء

اكتمال الحديث عن باب صيام يوم عاشوراء بفقه التعامل مع مناسبات الآخر التي لها ارتباط بأيام الله تعالى، وأننا أولى منهم بالاحتفال بها وبتعظيمها مع الارتقاء والتميز فيها، مع توضيح خطأ التعامل مع مناسبات الآخر بقصد المعاندة والمخالفة، وتوضيح خطورة التعامل مع النصوص بمنطق الاجتزاء وبقصد صرف الناس عن مناسبات الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، بالدلالات التالية:

  • فقه الانفتاح على الآخر وضوابطه
  • تنسب الأيام إلى الصلاح أو الفساد من باب ما يجرى فيها وليس في ذلك سب للدهر
  • فقه الارتباط بمناسبات لها صلة بنصرة الحق تجديد لمعنى ويقين النصرة في قلوب المسلمين
  • كيف يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ
  • وجه المخالفة بالتمييز وليس في المعاكسة
  • المقصود إيجاد شخصية للمسلم قائمة على الكمال والتميز والارتقاء
  • يؤخذ الحكم من اجتماع النصوص واكتمال الأحاديث
  • لماذا صار التورع في نهي الناس عن مناسبات الطاعات
  • متى يكون الامتناع عن العمل احتياطاً وتورعاً
  • الورع في العبادات بالأخذ والورع في الدرهم والدينار بالترك
  • عدم فهم اختلاف النصوص ليس بحجة في النكوص والامتناع عن الطاعات

 

* استمع للحلقة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، وبالسند الصحيح المتصل إلى إمام المحدثين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن بردزبة البخاري الجعثي مولاهم رحمه الله تعالى نفعنا الله به وبكم وبسائر الصالحين إلى يوم الدين، قال: باب صيام يوم عاشوراء

نص البخاري

بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ

- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ

في هذا الحديث استمرار لما مر ذكره في المجلس الماضي فيما يتعلق بسنة صيام يوم عاشوراء، وقد مر معنا أنه كان فريضة واجبة قبل أن يفرض صوم شهر رمضان، فلما جاء الأمر من الله بصيام شهر رمضان صار صوم عاشوراء مندوباً وليس بواجب وهذا الحديث، وهذا الحديث الوارد في المجلس يؤكد ذلك، وهو أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما خطب في السنة التي حج فيها في يوم عاشوراء، أي بعد انتهى موسم الحج، وقال: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ ؟

وفهم الشراح من هذا التساؤل أن معاوية بن أبي سفيان استغرب من قلة صيام يوم عاشوراء وكأن الناس تناسوا ذلك، فأراد أن يذكرهم بسنية صيام مثل هذا اليوم، فكأنه استنكر عليهم إهمال هذه السنة، فقال يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ.

استنكار معاوية إهمال الناس في سنة صيام يوم عاشوراء

واستشكل البعض قول معاوية أنه لم يكتب الله عليكم صيامه، وقد مر معنا أنه كان في البداية فريضة ثم نسخ فكيف لم يكتب؟ وذلكم لأن معاوية بن أبي سفيان قد أسلم بعد الفتح ولم يكن من السابقين إلى الإسلام  فلم يدرك العصر الذي كان فيه صيام يوم عاشوراء مفروضاً، فإما أن يكون قد جهل هذا الأمر لأنه لم يكن مسلماً في ذلك الوقت، وإما أن يكون علمه وإنما أراد  بكلامه هذا أنه لم يستقر الأمر على فرضية صوم عاشوراء، وإنما هو من باب الندب والاستحباب.

الجمع بين عدم الفرض وبين حض الناس على الصيام مع ترك المجال مفتوحاً أمام الناس

وهنا لطيفة في قول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ ، ففيه جمع بين تبيين أنه ليس بفرض وبين حث الناس على الصيام بأنه سنة وأنا صائم ، ثم أفسح المجال بعد ذلك للناس فقال فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ.

نص البخاري

  • حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ
  • حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصُومُوهُ أَنْتُمْ
  • حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ
  • حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ

في الحديث الأول والثاني ارتباط بإحياء أيام الله تعالى وتعظيمها

هذه أربعة أحاديث، يؤكد الأولان منها ارتباط صيام يوم عاشوراء بإحياء أيام الله وتعظيمها، أي الأيام التي خصها الله عز وجل بمناسبات يتقرب إلى الله عز وجل بالاحتفاء بها والاعتناء بها، فإن النبي صلى  الله عليه وآله  وصحبه وسلم كما جاء  في الحديث الأول وهو عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ وهم يصومونه- كما مر معنا في المجلس الماضي- في مكة إذ كانت قريش في الجاهلية تصوم يوم عاشوراء و كانت العرب كانت تعظم هذا اليوم أيضاً، فلما جاء إلى المدينة فلاحظ أن اليهود كذلك يصومونه، فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ،أي شكراً لله عز وجل على النجاة .

فقه الانفتاح على الآخر وضوابطه

أولاً: تأمل قول النبي: مَا هَذَا؟وهو يستفسر هنا من أهل الكتاب لينظر ماذا عندهم، وفي ذلك ملحظ في أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن المسلم لا يقصر في فهمه وفي نظره ولا يحجب – نعم يتبصر ويسأل أهل العلم فلا يأخذ المسألة هكذا ويسير بها من غير المسلمين لاسيما إن كانت المسألة تتعلق بالدين الإنسان يسأل ويتبصر- عقله ولا فكره للنظر فيما عند الناس، إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمنا كيف نستفيد حتى من اليهود، فكيف يوجد من المسلمين من يقول:لا تسمعوا لفلان ولا تسمعوا لمجموعة كذا ولا تحضروا عند قوم كذا، فكيف يقبل مسلم أصلاً أن يمارس أحد حجباً على عقله وكيف تقبل أن يمارس أحد الناس الوصاية على عقلك وقد خلق الله لك هذا العقل لتتبصر ولتنظر ولتسمع ولترى ولتتأمل ولتستفيد، فالمؤمن لا يقبل الحجب ولا الوصاية على عقله، لأن الله خلق له هذا العقل وجعله مكلفاً من خلال هذا العقل، فهو مناط تكليف العقل والاختيار.

قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ

الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حظ قول اليهود هنا،وتأملوا قولهم: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، فما معنى كلمة يوم صالح؟ أليست كل أيام الله صالحة؟  مؤكد أن الأيام من حيث كونها ليلاً ونهاراً كلها صالحة، لكن المقصود باليوم الصالح هنا أي أظهر الله فيه نصرته للحق، فارتبط اليوم بمعنى صالح، فما هو المعنى الصالح الذي ارتبط به يوم عاشوراء هنا؟ هو نصرة الله للحق على الباطل بنجاة بني إسرائيل الذين آمنوا مع سيدنا موسى عليه السلام وهلاك عدوهم .

تنسب الأيام إلى الصلاح أو الفساد من باب ما يجرى فيها وليس في ذلك سب للدهر

فالأيام تنسب إلى الصلاح من باب ما جرى فيها وتنسب إلى العكس أيضاً من باب ما جرى فيها وليس في نسبة بعض الأيام إلى الفساد سباً للدهر أي لا تسبوا الدهر، فإن الله يقول فأنا الدهر، أي مقدر الدهر ومدبر الدهر و صاحب القضاء في هذا الدهر ومسير الدهر سبحانه وتعالى.لكن عندما تذم بعض الأيام بالنسبة لما جرى فيها فليس في ذلك إشكال ولا يعد من سب الدهر،لأنه ليس من باب الاعتراض على قضاء الله فيه وإنما من باب تبيين الأيام وتمييزها الأيام عن غيرها ، وقد وردت تسميات للأيام في القرآن منها يوم نحس مستمر، فأضاف اليوم إلى النحس وجعله صفة فيه.

في الحديث تنبيه إلى تمييز الأيام التي يجري الله فيها الخيرات للناس

إذاً تنسب الأيام إلى الصلاح وتنسب إلى ضده، في قول اليهود للنبي إنه يوم صالح وإقرار النبي هذا الأمر لهم صلى الله عليه وسلم فيه تنبيه إلى تمييز الأيام التي يجري الله عز وجل فيها الخيرات للناس النبي، كما مر معنا أنه صلى الله عليه وسلم ميز يوم مولده؛ فقال هذا يوم ولدت فيها وكان يصومه، فالمؤمن إذا مرت به أيام رأى منها على نفسه أو على أهله أو على أمته أو على العالم فلا إشكال في أن يميز هذه الأيام، لكن السؤال هما هو بم يميزها؟ هل يميزها بالغفلة واللهو والمعاصي؟ أو يميزها بالطاعة وشكر الله عز وجل وبالتقرب إلى الله تعالى .

فإذا فرح الإنسان بذكر يوم مولده، وقال في مثل هذا اليوم أنا ولدت وذكر مولده، فليس في ذلك إشكال كما يتوهم البعض، لكن الإشكال إذا جعل الاحتفال فيه مخالفة شرعية أو إذا قام على أساس مخالف لشريعة الحق سبحانه وتعالى، فمما شرعه الله لنا أيضاً تعلمنا تمييز الأيام الصالحة.

بعض أركان الإسلام قامت على تمييز المناسبات

ومن هنا جاء تمييز الأيام الطيبة والفرح بها، بل إن بعض أركان الإسلام قامت على تمييز المناسبات كالحج مثلاً عند تأمل بعض مناسكه كالوقوف بعرفة إذ جاءت بعض الروايات أنها المكان الذي التقى فيه آدم بحواء بعد هبوطهما في الأرض وفي رمي الجمرات  تخليد لذكرى رمي الخليل إبراهيم للشيطان عندما تعرض ليوسوس له في أمر ذبح ابنه إسماعيل.

ارتباط مناسبتي عاشوراء بإغراق الله الكافرين ونجاة المؤمنين مع رسولهم

بل جاء في صحيح مسلم زيادة على  القول بأنه يوم الذي نجى الله فيها موسى بأن يوم عاشوراء هو اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي على الجبل أيضاً، فارتبط هذا اليوم بمناسبة أخرى وهي إغراق الله عز وجل من جحد وكفر ونجاة المؤمنين مع سيدنا نوح عليه السلام، فيوم عاشوراء -كما جاء في صحيح مسلم وأورد ذلك الإمام ابن حجر في شرحه للبخاري- هو نفس اليوم أيضاً الذي نجا الله تعالى فيه نوح ، فهي ذكرى  نجاة سيدنا موسى ومن معه وذكرى نجاة سيدنا نوح ومن معه من أهل السفينة عندما استوت سفينتهم على الجودي وسلمهم الله عز وجل من الغرق في الطوفان.

فقه الارتباط بمناسبات لها صلة بنصرة الحق تجديد لمعنى ويقين النصرة في قلوب المسلمين

فإذاً هناك ارتباط بين المؤمن وبين الذكريات فما الحكمة في ذلك؟ قالوا الحكمة في ذلك أن الارتباط بالذكريات التي لها صلة بنصرة الحق تجديد لمعنى النصرة في قلوب المسلمين ويقينهم بالله أنه سينصرهم كما نصر أولئك، كلما تذكرت أن الله تعالى نصرهم تذكرت فضل الله عز وجل فسيزداد يقينك بنصرة الله للمؤمنين ويقوى يقين المؤمنين بهذا الخير، فذكرى المواسم المرتبطة بفضل الله عز وجل تجديد لدين الناس ولإيمانهم، ولهذا لما قال اليهود إنه يوم صالح إنه اليوم الذي نجى الله فيه بني إسرائيل ونصرهم على عدوهم؛ أقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ .

كيف يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ

كيف يقول النبي لهم وهم يعتبرون أنفسهم قوم موسى أنا أحق بموسى منكم؟ أي أن الصلة التي بيننا وبين سيدنا موسى وبين سائر سادتنا من أنبياء الله عليه السلام قائمة على حقيقة الأمر الذي أرسلهم الله به وهو توحيد الله عز وجل فنحن أولى بالأنبياء ممن يقولون أنهم من أممهم ونحن الذين سنناصر سيدنا عيسى بإذن الله وأرجو الله أن يجعلنا وإياكم منهم، فإن لم يكتب لنا أن نحضر ذلك الزمان أن يجعل من ذريتنا من ينصر سيدنا عيسى عليه السلام ، ففي الحديث يقول النبي صلى الله  عليه واله وسلم ليجدن ابن مريم رجال من أمتي هم كحوارييه، فأخبر النبي وعلق قلوب الأمة بهذا الإخبار بأن لنا صلة بنصرة الأنبياء عليه السلام .

وفي أيام الرسوم الكرتونية التي اجترأ بعض المخذولين فيها على الحبيب صلى الله عليه وسلم، كلمتني امرأة بحرقة وبمحبة للنبي بالهاتف تقول:ما هذا وكيف يجترئون على نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لولا خوف الإثم لرددنا عليهم بالاجتراء على عيسى!! صحيح عندك حرقة على النبي صلى الله عليه وسلم لكن أن تصل المسألة  إلى ذلك معناها أن القضية بدأت تتحول من نصرة لدين الله إلى نصرة للذات  نصرة لنبينا ولو بالإساءة إلى نبيهم، لكن ليس الأمر كذلك.

نحن أحق بكل ما هو حق لأننا  أهل الحق وعلى مسلك الحق في هذا الوجود

لهذا جاء الكلام فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فنحن أحق بكل ما هو حق في هذا الوجود لأننا نسلك مسلك الحق، لأننا نريد أن نكون من أهل الحق، فكل ما اتصل بالحق في الوجود نحن به أحق والحكمة ضالة المؤمن، و لهذا قال أنا أحق بموسى منهم فصامه صلى الله عليه وآله وصحبه  وسلم وأمر بصيام،ه وتأملوا هنا قوله فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ إذ تجدون في قوله وأمر بصيامه ما يؤكد أنه كان في وقت من الأوقات فريضة كما جاء في الروايات.

فَصُومُوهُ أَنْتُمْ

وفي الحديث الذي يليه قال كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصُومُوهُ أَنْتُمْ ، فلم يقل أنه من أعياد اليهود فخالفوهم ،  لأنه ما دام الأمر مرتبط بخير سرنا فيه كما دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وإنما وجه المخالفة (ولو تذكرتم في المجلس الماضي ذكرنا ذلك بتفصيل لكن هنا على وجه الإجمال ) بالتميز وليس بالمعاكسة، فليس لأنهم فعلوا كذا أن نفعل العكس، وإنما نتساءل هل الذي فعلوه هو خير؟  فنفعله ثم نزيد من هذا الخير  ونتميز عليهم فصام عاشوراء ثم قال لأني عشت إلى قابل لأصومن يوماً قبله أو بعده ، فمخالفتنا مخالفة زيادة  ومخالفة تميز عن الآخرين و ليست مخالفة تضاد لمجرد التضاد، إلا إن كان الذي عليه الآخرين قد قام على وجه المخالفة.

وجه المخالفة بالتمييز وليس في المعاكسة

ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نخالف المجوس الذين كانوا يطلقون شواربهم ويحلقون لحاهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق اللحى وبأن تحف الشوارب، لأن المخالفة  هنا فيها ارتقاء من السيئ إلى الحسن ومن الانتكاس عن الفطرة إلى الرجوع إليها مرة أخرى، وليس المقصود هنا مجرد المعاندة بالمخالفة وإنما يقصد من المخالفة إيجاد شخصية للمجتمع المسلم هذه الشخصية ترتبط بكمال وبالارتقاء وبالعطاء وبالنفع .

وأقول للأسف إن هذا كان في السابق إذا سافر بعض المسلمين للتجارة بين غير المسلمين فإنهم كانوا يتميزون عن بقية أهل البلد بم؟  بأنهم هم أنظف أهل البلد في لباسهم وأجسامهم وهم أصدق أهل البلد واتقاناً في السلعة أو في التجارة أو في الصناعة التي يصنعونها وأكثر أهل البلد تخلقاً بالأخلاق الحسنة ، فميزوا بسمتهم و بأخلاقهم و بهديهم وبأنهم في كل أحوالهم يطلبون الأكمل فالأكمل فهذا هو وجه التميز الذي ينبغي أن يتميز به المجتمع المسلم وليس لمجرد فقط التمايز وليس لمجرد الاختلاف فحسب.

وهذا قد تغير الآن في أذهان كثير من طلبة العلم فصار التميز في العناد والمعاندة لمحض المخالفة، وليست المسألة كذلك فإن ذهب الآخرون إلى جهة اليمين وكان في اليمين خير لنا ذهبنا معهم إلى جهة اليمين ثم تميزنا بإتقان وبارتقاء وإن هم ذهبوا إلى اليسار فوجدنا في ذلك شراً تميزنا عنهم هنا بالمخالفة التي ليس المقصود منها مجرد المخالفة، وإنما المقصود هنا التميز بالمخالفة إلى الأفضل أو الموافقة ثم التميز أثناء الموافقة بالأفضل والأفضل.

وجاء بعد ذلك حديث ابن عباس يقول فيها رضي الله عنهما: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وقد تتذكرون قبل فصول  قرأنا كلاماً في باب هل يخص شيئاً من الأيام بالصوم في المجلس التاسع عشر،عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يخص شيئاً من الأيام بالصوم ،و تتذكرون -كنا نقول -أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها تكلمت عما حفظته هي وألا نأخذ نفيها على اعتبار النفي المطلق، وضربنا المثل بصلاة التراويح لما قالت رضي الله عنها ما زاد على أحد عشر ركعة فقلنا لم يعتمد الصحابة ولا التابعون هذا الكلام على أنه بمعنى أنه لا يزاد في رمضان على أحد عشر ركعة، بدليل أن عمر بن الخطاب أمر الناس وصلوا عشرين ركعة،و كذلك عثمان وعلي بن أبي طالب وتسلسلت بعد ذلك في عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وتابعي تابعي التابعين أنهم كانوا يصلون العشرين ركعة، فمن يريد أن يصلي ثمانية ركعات أو ست أو اثنان فليست القضية في عدد الركعات – كما ذكرنا قبل ذلك – لكن الشاهد في هذا أنه إذا حفظ عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه قال ما فعل رسول الله وما زاد رسول الله فلا يستعجل أحدنا ويقول هذا دليل على أن الزيادة على ذلك خطأ.

إذاً كيف يؤخذ الحكم؟  يؤخذ الحكم بالنصوص مجتمعة بأن نجمع النصوص هذه، فمن الأخطاء الشائعة أن يأخذ أحد طلبة العلم أو أحد المستمعين أو المشاهدين أو القراء نصاً ويقول هذا هو النص و الدليل ولا نأخذ برأي وكلام علماء هذه الزمان ما دام عندنا النص والدليل، فالدليل لا يؤخذ من نص واحد ويكتفي به إلا إذا كان في الباب نصوص أخرى تكمل هذا النص ففهمنا من ذلك إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي يحفظه ( وابن عباس توفي رسول الله صلى الله عيه وسلم وهو لا يزال في الثانية عشر من عمره والسيدة عائشة في الثامنة عشر  من عمرها ،ومع ذلك فتح الله عليهما بصدقهما وبدعوة النبي لهما فصار من كبار علماء الصحابة ورواة الحديث  رضي الله تعالى عنهما) فكان ابن عباس يقول أنه حفظ عن النبي ما خص يوماً بصوم إلا عاشوراء ولا شهراً إلا رمضان ، وروى آخر قال ما أذكر أن النبي صام شهراً بأكمله فيقفز بعضهم  ويقولون إذن صيام شهر بأكمله من البدعة.

لماذا صار التورع في نهي الناس عن مناسبات الطاعات

من قال هذا الكلام ؟ من أين جئت به لتنهى الناس عن الطاعة؟ ولماذا صار مظهر التورع عندنا في نهي الناس عن الطاعات وعن العبادة وعن الذكر وعن الإقبال على الخير؟ فالتورع في أنه لو كان هناك احتمالان أنه أفضل أو ليس بأفضل أن نأخذ بالاحتمال الأول وهو أنه يكون الأفضل احتياطاً، فالتورع هنا إنما يكون بالعمل لا بالإحجام عن العمل.

الورع في العبادات بالأخذ والورع في الدرهم والدينار بالترك

ثم أين يكون الاحتياط بالتورع في الإحجام عن العمل و متى؟  عندما يكون له صلة بحظوظ النفس الدنيوية أي بيعةأو صفقة فيها دينار ودرهم فقال بعض العلماء فيها  يجوز وقال كثير من العلماء لا يجوز في نفس المسألة ،فقالوا أن الاحتياط والورع هنا أن أتركه احتياطاً وورعاً، فمظهر الورع يظهر هنا في الدينار والدرهم أو في الدنيا التي تميل إليها الناس،  أما في العبادات فإن الاحتياط يكون بالعمل لا بترك العبادات ويكون الاحتياط فيها بالأخذ وباحتمال أن يكون قد ثبت فأعمل به احتياطاً حتى لا يفوتني الخير، وعلى هذا فمادام هناك نص أو قول عالم يحتج به فأنت على خير في ذلك ،ولا يجب أن نجعل اضطراب الروايات أو اختلاف الناس في الأسانيد مبرراً لنا  للنكوص عن الأعمال الصالحة وتركها والرجوع عنها فينبغي للإنسان أن يتأمل هذه القاعدة .

ثم في الحديث الأخير حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، يقول سيدنا سلمة بن الأكوع أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ،وهذا الحديث يؤكد الكلام بأن عاشوراء كانت في يوم من الأيام فريضة ثم نسخ بعد ذلك إلى نافلة.

تخريج الأحاديث حسب السياق

  • وَهَذَا يَوْمُ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ فَصَامَ نُوحٌ وَمُوسَى شُكْرًا للهِ تَعَالَى (أحمد 2/359(8702)
  • والذي بعثني بالحق ليجدن عيسى ابن مريم في أمتي خلفا من حواريه (أبو نعيم عن عبد الرحمن بن سمرة) الديلمى (4/130 ، رقم 6403)
  • جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ ( مسلم، باب خصال الفطرة )

تعليق واحد

  1. عبيدة 20 ديسمبر 2009 الساعة 1:50 ص

    الحمد لله وجزاكم عنا كل خير

أكتب تعليق

(*) حقول مطلوبة

أعلى الصفحة