المجلس السادس عشر: باب صوم الدهر

لا زال الإمام البخاري رحمه الله تعالي يتفنن في إيراد مرويات توجيه الرسول عليه وآله الصلاة والسلام لتطوع الشباب في الطاعات بما قد يتجاوزون به حد الوسط إلى التطرف والشطط، في عدد من الأبواب المتتالية محورها رواية سيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بصدد صوم الدهر وصوم يوم وإفطار يوم وصوم نبي الله داوود.

* استمع للحلقة


وقد كانت بداية الحديث عن ليلة قضاها الإمام الشافعي في ضيافة الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى، دلالة على اتساع الإدراك كلما اتسع العلم وأن من اتسع ادراكه قل إنكاره على مخالفيه، إذ لاحظت ابنة الإمام أحمد بن حنبل ثلاث ملاحظات ملفتة للنظر على سلوك الإمام الشافعي تلك الليلة : أنه أكثر من الطعام ونام من ليلته وصلى الفجر بغير وضوء، فكانت إجابته في الصباح : أما وأني لم أشبع من طعام منذ أربعين سنة لكني علمت أن طعام الصالحين شفاء، وأني تأملت قول النبي صلى الله عليه وسلم :يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ، فاستنبطت منها 150 مسألة منها جَوَازُ كُنْيَةِ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ يَتَكَنَّى بِاسْمِهِ،مَا صِيدَ فِي الْحِلِّ جَازَ إِدْخَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ اعْتِبَارًا بِمَكَانِهِ الَّذِي صِيدَ فِيه، جَوَازُ الْمَزْحِ مَعَ الصِّبْيَانِ، جَوَاز تَصْغِير الِاسْم وَلَوْ كَانَ لِحَيَوَانٍ، جَوَازُ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَجَوَاز إِمْسَاك الطَّيْر فِي الْقَفَص وَنَحْوِهِ، وَجَوَاز إِنْفَاق الْمَال فِيمَا يَتَلَهَّى بِهِ الصَّغِير مِنْ الْمُبَاحَات،ولم أنم طوال اليل فصليت الفجر بوضوء العشاء.

ثم الانتقال في المجلس إلى الحديث عن الدروس المستفادة من توجيه الرسول عليه الصلاة والسلام لطاقات الشباب ونزعاتهم في التميز في الطاعات بما قد يخرجهم عن حد الوسط ويقودهم إلى التطرف وتكفير المجتمع والخروج عليه وأن البداية المنهجية الصحيحة لمعالجة التطرف في مجتمعاتنا في الأخذ بهذا الحديث على وجه الخصوص.

فمن خلال الرواية المكتملة للحديث في باب صوم داوود يمكننا استخراج عدد من الملامح المهمة منها ذهاب الرسول عليه الصلاة والسلام برغم انشغاله بالرسالة الخاتمة وأمة الشهادة على العالمين إلى بيت عبد الله بن عمرو في قضية قد تبدو لنا في بداياتها هينة فلم يسمع أن عبد الله بن عمرو قد ترك فريضة أو ارتكب محرماً بل ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته في قضية تتعلق بمندوب أو مكروه، فقبل أن نشتكي من أن تدين الأبناء يقودهم إلى التطرف علينا أن نراجع أنفسنا:هل راعينا تطوع الشباب منذ البداية بحسن التفقد والنظر؟

كما من دلالات الرواية : لا تشعروا الشباب بأن التدين عار أو جريمة وإنما عالجوا الأمر في بدايته حتى لا يتحول إلى التشدد، وأننا لو راعينا شبابنا في بداية تطوعهم لقابلونا كما فعل سيدنا عبد الله بن عمرو بوضع الوسادة وإذا أهملناهم قابلونا برمي القنابل، ولو أردنا معالجة الأمر لاقتدينا بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام في جعل الوسادة بينه وبين مضيفه لإشعاره بعدم التعالي وتأليفاً لقلب من يخشى عليه من الشطط والتطرف ففي التعالي عليهم وفي مخاطبتهم بالاتهام قبل العلاج ما يشجعهم أكثر على سلوك طريق التنطع والتطرف.

ومنها كذلك: تأمل التلطف في الخطاب وتناول المشكلة وطول النفس والمراجعة والمجاراة فيما فيه مجاراة واستعراض مستويات الحد الوسط من الصوم ابتداء من ثلاثة أيام إلى أحد عشر ثم ربطه بقيمة عليا سامية وهي صوم نبي الله داوود حرصاً على تميز الشباب، فإذا وصل الأمر بعبد الله بن عمرو إلى الرغبة في تجاوز نهاية هذا الحد الأوسط؛ حسم الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر بأنه لا صوم فوق صوم داوود فلا مجاراة فيما يتجاوز هذه الحدود. فتدين شبابنا شيء مبهج ومطلوب يشجعون عليه مع التوجيه الواجب والاحتضان الرابط إلى الحد الوسط .

ولهذا كانت خاتمة اللقاء بتمني سيدنا عبد الله بن عمرو بعدما كبر في السن أن لو كان قبل ما دونها من الرخص التي عرضها عليه الرسول عليه الصلاة والسلام : فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم تأملوا تعليق الإمام ابن حجر العسقلاني على موقف عبد الله بن عمرو بعدما تجاوز مرحلة الشباب : وَمَعَ عَجْزِهِ وَتَمَنِّيه الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ لَمْ يَتْرُكْ الْعَمَلَ بِمَا اِلْتَزَمَهُ ، وَكَانَ يَقُول: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْت الرُّخْصَة أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَدَلَ بِهِ ، لَكِنِّي فَارَقْته عَلَى أَمْر أَكْرَه أَنْ أُخَالِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ.

نص البخاري

بَابُ صَوْمِ الدَّهْرِ

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ فَقُلْتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

باب صَوْمِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي فَدَخَلَ عَلَىَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ‏.‏ فَقَالَ ‏”‏ أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ‏”‏‏.‏ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ ‏”‏ خَمْسًا ‏”‏‏.‏ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ ‏”‏ سَبْعًا ‏”‏‏.‏ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ ‏”‏ تِسْعًا ‏”‏‏.‏ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏ قَالَ إِحْدَى عَشْرَةَ ‏”‏‏.‏ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏”‏ لاَ صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ شَطْرَ الدَّهْرِ، صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا ‏”‏‏.‏

أكتب تعليق

(*) حقول مطلوبة

أعلى الصفحة